فصل: تفسير الآيات رقم (149 - 150)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن كُفر اليهود وعنادهم، ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ‏[‏وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ‏]‏‏}‏ إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه كما هم مُسْتَمْسكون بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضًا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، وما كان متوجها إلى بيت المقدس؛ لأنها قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى‏.‏ ثم حذر ‏[‏الله‏]‏ تعالى عن مخالفةالحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى؛ فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره‏.‏ ولهذا قال مخاطبا للرسول، والمراد الأمة‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 145‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146 - 148‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

يخبر تعالى أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ‏[‏كما يعرفون أبناءهم‏]‏ كما يعرف أحدُهم ولده، والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير‏:‏ ‏"‏ابنك هذا‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم يا رسول الله، أشهد به‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه‏"‏‏.‏

‏[‏قال القرطبي‏:‏ ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام‏:‏ أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ولدك ابنك، قال‏:‏ نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين، في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمره‏.‏ قلت‏:‏ وقد يكون المراد ‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ من بين أبناء الناس لا يشك أحد ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي ‏{‏لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ‏}‏ أي‏:‏ ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ثم ثبّت تعالى نبيه والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال‏:‏ ‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ يعني بذلك‏:‏ أهل الأديان، يقول‏:‏ لكل قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهَداكم أنتم أيتها الأمة ‏[‏الموقنون‏]‏ للقبلة التي هي القبلة‏.‏ وروي عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي نحو هذا‏.‏

وقال مجاهد في الرواية الأخرى‏:‏ ولكن أمَرَ كلَّ قوم أن يصلوا إلى الكعبة‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر الباقر، وابن عامر‏:‏ ‏"‏ولكلٍ وجهة هو مُوَلاها‏"‏‏.‏ وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149 - 150‏]‏

‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏

هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام، من جميع أقطار الأرض‏.‏ وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل‏:‏ تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره، وقيل‏:‏ بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجهه فخر الدين الرازي‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج، في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل‏:‏ إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال‏:‏ أولا ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها؛ وقال في الأمر الثاني‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين وغيره، والله -سبحانه وتعالى -أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ أهل الكتاب؛ فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين أو لئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس‏.‏ وهذا أظهر‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏}‏ يعني به أهل الكتاب حين قالوا‏:‏ صُرف محمد إلى الكعبة‏.‏

وقالوا‏:‏ اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه‏.‏ وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا‏:‏ سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروى عن مجاهد، وعطاء، والضحاك، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، نحو هذا‏.‏ وقال هؤلاء في قوله‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ مشركي قريش‏.‏

ووجه بعضهم حُجّة الظلمة -وهي داحضة -أن قالوا‏:‏ إن هذا الرجل يزعمُ أنه على دين إبراهيم‏:‏ فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم، فلم رجع عنه‏؟‏ والجواب‏:‏ أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم -وهي الكعبة -فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا، فهو، صلوات الله وسلامه عليه، مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين، وأمتهُ تَبَع له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي‏}‏ أي‏:‏ لا تخشوا شُبَهَ الظلمة المتعنتين، وأفْرِدُوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ ولأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ إلى ما ضَلّت عنه الأمم هديناكم إليه، وخَصصْناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرفَ الأمم وأفضلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151 - 152‏]‏

‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ‏}‏

يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم، أي‏:‏ يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي السنة -ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون‏.‏ فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يعني بنعمة الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا نَدَب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره، فقال‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ‏}‏‏.‏ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ كما فعلت فاذكروني‏.‏

قال عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعيد، عن زيد بن أسلم‏:‏ أن موسى، عليه السلام، قال‏:‏ يا رب، كيف أشكرك‏؟‏ قال له ربه‏:‏ تذكرُني ولا تنساني، فإذا ذكرتني فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني‏.‏

وقال الحسن البصري، وأبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره ويعذب من كفره‏.‏

وقال بعض السلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ قال‏:‏ هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا عمارة الصيدلاني، حدثنا مكحول الأزدي قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ أرأيت قاتل النفس، وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته، حتى يسكت‏.‏

وقال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ اذكروني، فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، وفي رواية‏:‏ برحمتي‏.‏

وعن ابن عباس في قوله ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه‏"‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله عز وجل‏:‏ يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك، في ملإ من الملائكة -أو قال‏:‏ ‏[‏في‏]‏ ملأ خير منهم -وإن دنوت مني شبرًا دنوت منك ذراعًا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول‏"‏ صحيح الإسناد‏:‏ أخرجه البخاري من حديث قتادة‏.‏ وعنده قال قتادة‏:‏ الله أقرب بالرحمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ‏}‏ أمر الله تعالى بشكره، ووعده على شكره بمزيد الخير، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن الفضيل بن فضالة -رجل من قيس- حدثنا أبو رجاء العطاردي، قال‏:‏ خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطْرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه‏"‏‏.‏ وقال روح مرة‏:‏ ‏"‏على عبده‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153 -154‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ‏}‏

لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏عجبًا للمؤمن‏.‏ لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له‏:‏ إن أصابته سراء، فشكر، كان خيرًا له؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له‏"‏‏.‏

وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى‏.‏ والصبر صبران، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات‏.‏ والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود‏.‏ كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ الصبر في بابين، الصبر لله بما أحب، وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء‏.‏ فمن كان هكذا، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم، إن شاء الله‏.‏

وقال علي بن الحسين زين العابدين‏:‏ إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد‏:‏ أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب‏؟‏ قال‏:‏ فيقوم عُنُق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون‏:‏ إلى أين يا بني آدم‏؟‏ فيقولون‏:‏ إلى الجنة‏.‏ فيقولون‏:‏ وقبل الحساب‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ ومن أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ الصابرون، قالوا‏:‏ وما كان صبركم‏؟‏ قالوا‏:‏ صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتى توفانا الله‏.‏ قالوا‏:‏ أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين‏.‏

قلت‏:‏ ويشهد لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو مُتَجَلّد لا يرى منه إلا الصبر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ‏}‏ يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة، فقال‏:‏ ماذا تبغون‏؟‏ فقالوا‏:‏ يا ربنا، وأيّ شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك‏؟‏ ثم عاد إليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا، قالوا‏:‏ نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك، حتى نقتل فيك مرة أخرى؛ لما يرون من ثواب الشهادة -فيقول الرب جلّ جلاله‏:‏ إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون‏"‏‏.‏

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه‏"‏‏.‏

ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا بالذكر في القرآن، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155 - 157‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏

أخبر تعالى أنه يبتلي عباده ‏[‏المؤمنين‏]‏ أي‏:‏ يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏ فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏ فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه؛ ولهذا قال‏:‏ لباس الجوع والخوف‏.‏ وقال هاهنا ‏{‏بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ‏}‏ أي‏:‏ بقليل من ذلك ‏{‏وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ‏}‏ أي‏:‏ ذهاب بعضها ‏{‏وَالأنْفُسِ‏}‏ كموت الأصحاب والأقارب والأحباب ‏{‏وَالثَّمَرَاتِ‏}‏ أي‏:‏ لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها‏.‏ كما قال بعض السلف‏:‏ فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة‏.‏ وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه ‏[‏الله‏]‏ ومن قنط أحل ‏[‏الله‏]‏ به عقابه‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏

وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف هاهنا‏:‏ خوف الله، وبالجوع‏:‏ صيام رمضان، ونقص الأموال‏:‏ الزكاة، والأنفس‏:‏ الأمراض، والثمرات‏:‏ الأولاد‏.‏ وفي هذا نظر، والله أعلم‏.‏

ثم بيَنَّ تعالى مَنِ الصابرون الذين شكرهم، قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف في عبيدهبما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة‏.‏ ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ثناء من الله عليهم ورحمة‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ أي أَمَنَةٌ من العذاب ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏:‏ نعم العدْلان ونعمت العلاوة ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ فهذان العدلان ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏ فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا‏.‏

وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ عند المصائب أحاديث كثيرة‏.‏ فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا ليث -يعني ابن سعد -عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عَمْرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت‏:‏ أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سُررْتُ به‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول‏:‏ اللهم أجُرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها، إلا فُعِل ذلك به‏"‏‏.‏ قالت أم سلمة‏:‏ فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت‏:‏ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منه، ثم رجعت إلى نفسي‏.‏ فقلت‏:‏ من أين لي خير من أبي سلمة‏؟‏ فلما انقضت عدَّتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا أدبغ إهابا لي -فغسلت يدي من القَرَظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حَشْوُها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت‏:‏ يا رسول الله، ما بي ألا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة، فيّ غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلتُ في السن، وأنا ذات عيال، فقال‏:‏ ‏"‏أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يُذهبها الله، عز وجل عنك‏.‏ وأما ما ذكرت من السِّن فقد أصابني مثلُ الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ فقد سلَّمْتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة بعد‏:‏ أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي صحيح مسلم، عنها أنها قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله من مصيبته، وأخلف له خيرا منها‏"‏ قالت‏:‏ فلما تُوُفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرا منه‏:‏ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، وعَبَّاد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام، حدثنا عباد بن زياد، عن أمه، عن فاطمة ابنة الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وقال عباد‏:‏ قدم عهدها -فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب‏"‏‏.‏

ورواه ابنُ ماجه في سُنَنه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن هشام بن زياد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها ‏[‏الحسين‏]‏‏.‏

وقد رواه إسماعيل بن عُلَية، ويزيد بن هارون، عن هشام بن زياد عن أبيه، كذا عن، فاطمة، عن أبيها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني، أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان قال‏:‏ دفنتُ ابنًا لي، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة -يعني الخولاني -فأخرجني، وقال لي‏:‏ ألا أبشرك‏؟‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرْزَب، عن أبي موسى، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله‏:‏يا ملك الموت، قبضتَ ولد عبدي‏؟‏ قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤاده‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ فما قال‏؟‏ قال‏:‏ حَمِدَك واسترجع، قال‏:‏ ابنو له بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيتَ الحمد‏"‏‏.‏

ثم رواه عن علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك‏.‏ فذكره‏.‏ وهكذا رواه الترمذي عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، به‏.‏ وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏ واسم أبي سنان‏:‏ عيسى بن سنان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ قلت‏:‏ أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ قلت‏:‏ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما‏؟‏ فقالت عائشة‏:‏ بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها عليه كانت‏:‏ فلا جناح عليهألا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل‏.‏ وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ قالت عائشة‏:‏ ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وفي رواية عن الزهري أنه قال‏:‏ فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال‏:‏ إن هذا العلم، ما كنت سمعته، ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون إن الناس -إلا من ذكرتْ عائشة -كانوا يقولون‏:‏ إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية‏.‏ وقال آخرون من الأنصار‏:‏ إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ قال أبو بكر بن عبد الرحمن‏:‏ فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء‏.‏ ورواه البخاري من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحو ما تقدم‏.‏ ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سُليمان قال‏:‏ سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال‏:‏ كنا نرى ذلك من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال‏:‏ كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية‏.‏ قلت‏:‏ وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب، في قصيدته المشهورة‏:‏

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم *** بمفضى السيول من إساف ونائل

وفي صحيح مسلم ‏[‏من‏]‏ حديثُ جابر الطويلُ، وفيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت، عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏أبدأ بما بدأ الله به‏"‏‏.‏ وفي رواية النسائي‏:‏ ‏"‏ابدؤوا بما بدأ الله به‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا شريح، حدثنا عبد الله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حَبِيبة بنت أبي تجراة قالت‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول‏:‏ ‏"‏اسعَوا، فإن الله كتب عليكم السعي‏"‏‏.‏

ثم رواه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن واصل -مولى أبي عُيَينة -عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول‏:‏ ‏"‏كتب عليكم السعي، فاسعوا‏"‏‏.‏

وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشافعي، ومن وافقه ‏[‏ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنه واجب، وليس بركن ‏[‏فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة وقيل‏:‏ بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس، وحكي عن مالك في العتبية، قال القرطبي‏:‏ واحتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ بل مستحب‏.‏ والقول الأول أرجح، لأنه عليه السلام طاف بينهما، وقال‏:‏ ‏"‏لتأخذوا عني مناسككم‏"‏‏.‏ فكل ما فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج، إلا ما خرج بدليل، والله أعلم ‏[‏وقد تقدم قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي‏"‏‏]‏‏.‏

فقد بين الله- تعالى -أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي‏:‏ مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤها وزادُها، حين تركهما إبراهيم -عليه السلام -هنالك ليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من الله، عز وجل، فلم تزل تردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله، عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم، وشفاء سقم، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله، عز وجل،ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر -عليها السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ قيل‏:‏ زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ يطوف بينهما في حجة تطوع، أو عمرة تطوع‏.‏ وقيل‏:‏ المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات‏.‏ حكى ذلك ‏[‏فخر الدين‏]‏ الرازي، وعزي الثالث إلى الحسن البصري، والله أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يثيب على القليل بالكثير ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و‏{‏لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159 - 162‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ‏}‏

هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله -تعالى -لعباده في كتبه، التي أنزلها على رسله‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ نزلت في أهل الكتاب، كتمُوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم‏.‏ يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء ‏[‏الذين يكتمون‏]‏ فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏.‏ وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من سُئِل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار‏"‏‏.‏ والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى‏}‏ الآية‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمار بن محمد، عن ليث بن أبي سليم،عن المنهال بن عمرو، عن زاذان أبي عُمَر عن البراء بن عازب، قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال‏:‏ ‏"‏إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فيسمع كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ دواب الأرض‏"‏‏.‏ ‏[‏ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به‏]‏‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ كل دابة والجن والإنس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا أجدبت الأرض قالت البهائم‏:‏ هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم‏.‏

وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة ‏{‏وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ‏}‏ يعني تلعنهم ملائكة الله، والمؤمنون‏.‏

‏[‏وقد جاء في الحديث، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان، وجاء في هذه الآية‏:‏ أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال، أو الحال، أو لو كان له عقل، أو يوم القيامة، والله أعلم‏]‏‏.‏

ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا‏}‏ أي‏:‏ رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبينوا للناس ما كانوا كتموه ‏{‏فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه‏.‏

وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم، ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحالُ إلى مماته بأن ‏{‏عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي ‏{‏لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ‏}‏ فيها، أي‏:‏ لا ينقص عَمَّا هم فيه ‏{‏وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يغير عنهم ساعة واحدة، ولا يفتَّر، بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك‏.‏

وقال أبو العالية وقتادة‏:‏ إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون‏.‏

فصل‏[‏في لعن الكفار‏]‏‏:‏

لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعمن بعده من الأئمة، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره؛ فأما الكافر المعين، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم له، واستدل بعضهم بهذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ وقالت طائفة أخرى‏:‏ بل يجوز لعن الكافر المعين‏.‏ واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله، عليه السلام، في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل‏:‏ لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله‏"‏ قالوا‏:‏ فعلَّة المنع من لعنه؛ بأنه يحب الله ورسوله فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏}‏

يُخبرُ تعالى عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عَديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم‏.‏ وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول السورة‏.‏ وفي الحديث عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏}‏ و‏{‏الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1، 2‏]‏ ‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏

ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية ‏[‏بتفرده‏]‏ بخلق السموات والأرض وما فيهما، وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ تلك في ‏[‏لطافتها و‏]‏ ارتفاعها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في ‏[‏كثافتها و‏]‏ انخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها وَوِهَادها وعُمْرانها وما فيها من المنافع ‏{‏وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏ وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 61‏]‏ أي‏:‏ يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا ‏{‏وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ‏}‏ أي‏:‏ في تسخير البحر لحمل السفن من جانب إلى جانب لمعاش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء ‏{‏وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33-36‏]‏‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏{‏وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ‏}‏ أي‏:‏ تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب، تارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، ‏[‏ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا، وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر الكعبة والرياح تسمى كلها بحسب مرورها على الكعبة‏.‏ وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها، وبسط ذلك يطول هاهنا، والله أعلم‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ سائر بين السماء والأرض‏]‏ يُسَخَّر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190، 191‏]‏‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو سعيد الدَّشْتَكِيّ، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ أتت قريش محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد إنما نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، فنشتري به الخيل والسلاح، فنؤمن بك ونقاتل معك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أوثقوا لي لئِنْ دعوتُ ربي فجعلَ لكم الصفا ذهبًا لتُؤْمنُنّ بي‏"‏ فأوثقوا له، فدعا ربه، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبًا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين‏.‏ قال محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ربّ لا بل دعني وقومي فلأدعهم يومًا بيوم‏"‏‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ‏}‏ الآية‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن جعفر بن أبي المغيرة، به‏.‏ وزاد في آخره‏:‏ وكيف يسألونك عن الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم أيضًا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء، قال‏:‏ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏}‏ فقال كفار قريش بمكة‏:‏ كيف يسع الناس إله واحد‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء‏.‏

وقال وكيع‏:‏ حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ إلى آخر الآية، قال المشركون‏:‏ إن كان هكذا فليأتنا بآية‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَعْقِلُونَ‏}‏

ورواه آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر -هو الرازي -عن سعيد بن مسروق، والد سفيان، عن أبي الضحى، به‏.‏